هناك "شيء ما" في الفضاء، غامض وجديد على العلماء تماماً، وقد يكون طاقةأو قوة غير معروفة، لكنها ليست غاشمة على ما يبدو من محاولتها صدّ الأجسامبلطف ورشاقة لكي لا تتوغل أكثر مما ينبغي في الفضاء، كما وكأنها إشارةمرور حمراء ما أن تبدو للسائق من بعيد إلا ويبطئ سرعته استعداداً للوصولإليها على مهل والوقوف بسيارته أمامها بلا حراك.
القوة التيتحدثت "العربية.نت" ليل الإثنين 20-9-2010 بشأنها إلى عالم الفضاء المصريالدكتور فاروق الباز، الناشط مع وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) منذ أكثرمن 43 سنة، حيّرت مجموعة من العلماء منذ اكتشفت العام الماضي ما حدثلمسبار فضائي أطلقته "ناسا" قبل عشرات السنين كساع للبريد حمل رسالة منأهل الأرض للتواصل مع كائنات في عوالم بعيدة.
ويقول الدكتور الباز إن الطاقة التي نتحدث عنها قد تكون شيئاً جديداًبالمرة ومختلفاً عما هو معروف من قوى الكون الشهيرة، كالجاذبية أوالكهرمغنطيسية مثلاً، اذا ما اتضح فعلاً أنها هي سبب ما حدث للمسبار"بيونير10" المتوغل منذ 1972 في الفضاء بسرعة تسمح له بقطع أكثر من مليونكيلومتر باليوم الواحد.
لكنه قال أيضاً إن بالإمكان وصف تلك القوة بالغامضة "طالما لم نتعرف إليهاتماماً. ونحن لا يمكننا تفسيرها الآن قبل التأكد من وجودها العلمي بشكلحاسم، فالوقت ما زال مبكراً" وفق تعبيره لـ"العربية.نت" عبر الهاتف منمدينة بوسطن، عاصمة ولاية ماساشوستس الأميركية، حيث يعمل ويقيم.
امرأة ورجل عاريان إلى عوالم أخرى
وكانت "العربية.نت" اتصلت بالدكتور الباز، المولود في 1938 بقرية "طوخالأقلام" في محافظة الدقهلية، لتسأله تفسيره عما سبب الحيرة لعلماءاكتشفوا أن سرعة مسبار "بيونير10" تباطأت وهو في منطقة لا شيء فيها يمكنهالتسبب في تباطؤ سرعته على الإطلاق.
والسبب أن المسبار وصل خارج المجموعة الشمسية إلى فراغ في الفضاء ليس فيهأي كوكب ليجذبه نحوه بجاذبيته أو حقله المغناطيسي، فيما الإشعاعات الشمسيةوجاذبياتها معدومة في الموقع السالك فيه المسبار لبعده عن الشمس، فما الذييبطئ من سرعة "بيونير10" إن لم تكن قوة غير معروفة حتى الآن؟.
ومنذ اعترض العلماء هذا اللغز راحوا يدرسون كافة الاحتمالات بصمت في مابينهم، إلى أن كشف اثنان منهم في اليومين الماضيين عن ملخص دراسة علميةستنشرها في عددها المقبل مجلة "ذي فيزيكال ريفيو" الموصوفة بالرائدة فينشر الأبحاث الفيزيائية بشكل خاص، وفيها تساؤلات عن تلك القوة التي إنوجدت حقاً فقد تنسف معظم المعروف عن نظم الكون وما فيه من قوى وطاقات تمسكبزمامه الأمور فيه من الأساس.
واحد من العالمين هو الدكتور فيليب لينغ، الناشط مع "هيئة آيروسبيسكوربوريشن أوف كاليفورنيا" التابعة لوكالة الفضاء الأميركية والعضو بفريقعلماء يتابع "بيونير10" ومساره كأول مسبار أطلقته "ناسا" في 1972 لالتقاطصور قريبة لكوكب المشتري، ومنه غادر في 1978 نحو كوكب "بلوتو" الأبعد عنالأرض.
ومن "بلوتو" الذي مر المسبار قربه في 1983 غادر إلى منطقة يسمونها "حزامالكويكبات" فعبرها بلا أي ارتطام، ثم بدأ بالتوغل في الكون حاملاً إسطوانةمن التيتانيوم المقاوم للحرارة تضمنت رسالة صوتية مرفقة برسم لامرأة ورجلعاريين، لعل وعسى تعثر عليها كائنات قد تكون موجودة في عوالم أخرى فتتعرفإلى سكان كوكب من البشر ملأوا الكون وشغلوا من في السموات ومن في الأرضبشؤونهم منذ بداية الخلق إلى الآن.
من مكة المكرمة إلى القدس بأقل من دقيقتين
ويقول الدكتور لينغ إنه وزملاؤه فحصوا واختبروا "كل نظرية أو احتمالميكانيكي ممكن ويخطر على البال لمعرفة السبب (بتباطؤ سرعة المسبار) ولكنمن دون أي جدوى إلى الآن"، على حد ما نقلت عن لسانه صحيفة "التلغراف"البريطانية.
وما زال المسبار الذي أطلقته "ناسا" قبل 38 سنة و6 أشهر سالكاً خارجالمجموعة الشمسية ومتوغلاً بالفضاء الفسيح حتى أصبح بعيداً عن الأرض أكثرمن 11 مليار كيلومتر تقريباً، لأن سرعته المبرمجة منذ إطلاقه هي 43 ألفكيلومتر بالساعة، أي أنه يقطع المسافة بين مكة المكرمة والقدس، وهي 1230كلم وتحتاج إلى ساعتي طيران تقريباً، بأقل من دقيقتين، وبأقل من 7 دقائقيمكنه "القفز" من لندن إلى الرياض.
ويتعرف العلماء عبر حسابات بالكومبيوتيرات عادة إلى المكان الذي وصل إليهالمسبار في الفضاء كل مدة بعد أن انقطع آخر اتصال معه قبل 7 سنوات. لذلكفحين لاحظوا أن المكان المفترض أن يصل إليه تأخر عنه بمقدار معين منالأمتار، ومن دون أي سبب معروف، تأكدوا حينها أن "شيئاً ما" يبطئ من سرعتهالمبرمجة، فراحوا يتساءلون عما يكون.
وحجم هذا التباطؤ قليل جداً ويكاد لا يذكر، إلى درجة يمكن معها تشبيههبنهر خسر نقطة من الماء، فهو 25 سنتيمتراً إلى الوراء كل يوم، أو 9كيلومترات تقريباً كل 100 عام يقطع المسبار خلالها 40 ملياراً منالكيلومترات تقريباً، لكن اكتشاف هذا التباطؤ مهم جداً لأنه يدل على وجودقوة كابحة لسرعة المسبار، وهي أضعف من قوة جاذبية كوكب كالأرض بعشرةمليارات مرة، كما يقول العلماء.
وقوة خفيفة من هذا النوع أمرها غريب في كون من المفترض أن تكون طاقاتهوقواه هائلة وكبيرة تتناسب مع ضخامته، إلا إذا كانت من النوع المتعاملبلطف وبالتي هي أحسن مع الأشياء وطبقاً لأحجامها بحيث تتغير بنسبة حجموقوة الشيء الذي تتعامل معه في الفراغ، وبحيث لا تسبب له أي عطل أو ضرر،فتحدث الأمور عندها طبقاً للحديث الشريف: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم"،وهو شأن بعيد عن الطاقات الكونية باعتبارها غير واعية وغير عاقلة، هذا علىافتراض أن قوة غير معروفة سببت فعلاً بذلك التباطؤ الغريب.
قد يكون بسبب عطل طرأ على برنامج الكومبيوتر
ولم يندهش الدكتور الباز لتباطؤ سرعة "بيونير10" في الفضاء، وقال: "لقدرأيت الكثير من المفاجآت العلمية خلال عملي بوكالة الفضاء الأميركية".وروى أن أحد رواد السفينة "أبولو 14" التي أطلقتها "ناسا" في أوائل 1971إلى القمر رأى جسماً معدنياً طوله 3 أمتار تقريباً، وقد يكون انفصل عنالمركبة، لكنه كان يسير بعكس مسارها مع أنه كان قريباً منها، "وهذا يناقضأي قانون كوني معروف، لأنه يجب أن يسير بموازاتها لا عكسها، وهو ما لم نجدله حلاً إلى الآن" كما قال.
مع ذلك، يعترف الدكتور الباز أن ما حدث لمسبار "بيونير10" يستحق التأمللأنه حدث غريب وسط نواميس طبيعية معروفة، "وقد يكون ناتجاً عن عطل ما فيبرنامج تتبع مسار المسبار عبر الكومبيوتيرات، أو لسبب آخر معروف، لذلكعلينا بالصبر وبدراسة ما جرى بشكل عميق للتأكد تماماً وبشكل حاسم ونهائيمن أن السبب هو طاقة غامضة لم نكن نعرفها، عندها لكل حادث حديث"، وفقتعبيره.
واعترف أيضاً أنه إذا أثبتت التجارب والأبحاث أن السبب في التباطؤ كانطاقة لم نكن نعرفها "فهذا سيغير من معظم المعلومات التي لدينا عن الكونوقوانين الجاذبية فيه" كما قال.
هذا ما ذكره أيضاً البروفسور البريطاني دونكان ستيل، عالم الفضائيات فيجامعة سالفورد بمدينة مانشستر في بريطانيا، إذ قال في ملخص البحث الذيستنشره "ذي فيزيكال ريفيو" إن وجود طاقة خفيفة في الكون كالتي يمكن أنتكون السبب في تباطؤ سرعة "بيونير10" سيكون لها تأثيرات عميقة على فهمنالقوانين الجاذبية".
مسبار يبقى في الفضاء إلى الأبد ويحمل أغرب التناقضات
وأغرب ما قاله الدكتور الباز هو أن "بيونير10" سيحتاج إلى مليارات السنينليتوقف عن السير نهائياً إذا ما استمرت سرعته تتباطأ بهذه النسبة كما هيالآن، وسيأتي وقت عليه يقف فيه تماماً عن أي حركة وسط الفراغ الكوني،وسيظل على هذه الحال طالما الكون ما زال موجوداً، أو سيظل إلى مليارات منالسنين سالكاً في الفضاء إن لم تتباطأ سرعته أو يمر قرب كوكب أو نجم يميلإليه بفعل جاذبيته ومجاله المغناطيسي.
وسألته "العربية.نت" عما إذا كان المسبار قادراً على البقاء في الفضاءطوال هذه الأرقام الفلكية من السنين في حين لا تبقى الأشياء على سطح الأرضإلا عشرا ت أو آلاف الأعوام على الأكثر ثم تتلف وتفنى، فقال إن الفضاءمختلف لأنه خالٍ من الطبقات الجوية وما فيها من مسببات التلف والاتلاف،وأعطى مثلاً عن الأرض السالكة في الفراغ الكوني منذ 5 مليارات عام، أوالمجموعة الشمسية نفسها، والموجودة منذ 11 مليار سنة تقريباً.
أما أغرب ما في "بيونير10" الحامل رسالة من الأرض إلى عوالم بعيدة، فهوأنه يحمل أيضاً تناقضاً واضحاً من إنسان يجهد وينفق المليارات ليتواصل معكائنات وحضارات قد لا يكون لها وجود على الإطلاق، وإن وجدت فبعيدة ملايينالسنين الضوئية عن الأرض وسكانها.
لكنه يجهد في الوقت نفسه بإقامة الجدران العازلة ليبعد عنه جاراً يسكن علىبعد مرمى حجر، ويجهد في منع مهاجر بسيط من الحصول على تأشيرة سفر يعبر بهاإلى بلد آخر، بل يحاول أن يحرق كتاباً كان بإمكانه أن يقرأ فيه آية تلخصسبب وجوده بالذات: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكمشعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".